فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}.
لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته وأن من في السموات والأرض كلهم ملك له، وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته لا يفترون عن تسبيحه وعبادته، عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم و{أم} هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي {اتخذوا آلهة من الأرض} يتصفون بالإحياء ويقدرون عليها وعلى الإماتة، أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جمادًا لا يتصف بالقدرة على شيء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة؟ قلت: الأمر كما ذكرت ولَكِنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلاّ القادر على كل مقدور، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله: {من الأرض} قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك؟» فأشارت إلى السماء فقال: «إنها مؤمنة» لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكانًا لله تعالى.
ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت: لابد من نكتة في قوله: {هم} قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل {أم اتخذوا آلهة} لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى.
و{اتخذوا} هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و{من الأرض} متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصنامًا من الأرض كقوله: {أتتخذ أصنامًا آلهة} وقوله: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} وفيه معنى الإصطفاء والاختيار.
وقرأ الجمهور: {ينشرون} مضارع أنشر ومعناه يحيون.
وقال قطرب: معناه يخلقون كقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقرأ الحسن ومجاهد {ينشرون} مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازمًا تقول: أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في {فيهما} عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم.
و{إلا} صفة لآلهة أي آلهة غير {الله} وكون {إلا} يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله:
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال الزمخشري: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله: {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما {لفسدتا} وفيه دلالة على أمرين أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلاّ واحدًا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إياه وحده كقوله: {إلا الله}.
فإن قلت: لم وجب الأمران قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري ولَكِن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر.
وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر.
وقال ابن عطية: وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال أن لا تتم جميعًا، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزًا وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلًا لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
وقال أبو عبد الله الرازي: لو فرضنا موجودين واجبيَ الوجود لذاتهما فلابد أن يشتركا في الوجود ولابد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد مشاركًا للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته، فإذا واجب الوجود ليس إلاّ واحدًا فكل ما عدا هذا فهو محدث، ويمكن جعل هذا تفسيرًا لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجبًا، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلًا لأن المعنى يصير إلى قولك {لو كان فيهما} {إلا الله لفسدتا} ألا ترى أنك لو قلت: ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده.
وقيل: يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القوم إلاّ زيدًا لقتلتهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى {لو كان فيهما} غير {الله لفسدتا}.
والوجه الثاني أن {آلهة} هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى.
وأجاز أبو العباس المبرد في {إلاّ الله} أن يكون بدلًا لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف.
وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل.
وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه: لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلاّ بمعنى غير التي بمعنى مكان.
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون {إلاّ} في معنى غير الذي يراد بها البدل أي {لو كان فيهما آلهة} عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو {الله لفسدتا} وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى.
ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله: {فسبحان الله} ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال: {لا يسأل عما يفعل} إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلاّ ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب، وجاء {عما يفعل} إذ الفعل جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك، والظاهر في قوله: {لا يسأل} العموم في الأزمان.
وقال الزجّاج: أي في القيامة {لا يُسْأَل} عن حكمه في عباده {وهم يُسْأَلُون} عن أعمالهم.
وقال ابن بحر: لا يحاسب وهم يحاسبون.
وقيل: لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى.
{وهم يسألون} لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيرًا فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا.
وقرأ الحسن: لا يُسَل ويُسَلُون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة.
ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال: {أم اتخذوا من دونه آلهة} استفظاعًا لشأنهم واستعظامًا لكفرهم، وزاد في هذا التوبيخ قوله: {من دونه} فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكًا لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به {هذا ذكر من معي} أي عظة للذين معي وهم أمته {وذكر} للذين {من قبلي} وهم أمم الأنبياء، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون {هذا} إشارة إلى القرآن.
والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم.
والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي {هاتوا برهانكم} فهذا برهاني في ذلك ظاهر.
وقرأ الجمهور: بإضافة {ذكر} إلى {من} فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: {بسؤال نعجتك} وقرىء بتنوين {ذكر} فيهما و{من} مفعول منصوب بالذكر كقوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا} وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين {ذكر} فيهما وكسر ميم {من} فيهما، ومعنى {معي} هنا عندي، والمعنى {هذا ذكر من} عندي و{من قبلي} أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم، ودخول {من} على مع نادر، ولَكِنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه {من} كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول {من} على مع ولم ير لها وجهًا.
وعن طلحة {ذكر} منونًا {معي} دون {مِن} {وذكر} منونًا {قبلي} دون {من}.
وقرأت فرقة {وذكر من} بالإضافة {وذكر} منونًا {من قبلي} بكسر ميم من.
وقرأ الجمهور: {الحق} بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المنصوب أيضًا على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق.
وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن {أكثرهم لا يعلمون الحق} لإعراضهم عنه وليس المعنى {فهم معرضون} لأنهم لا يعلمون بل المعنى {فهم معرضون} ولذلك {لا يعلمون الحق} وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن {الحق} بالرفع.
قال صاحب اللوامح: ابتداءً والخبر مضمر، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر.
وقال ابن عطية: هذا القول هو {الحق} والوقف على هذه القراءة على {لا يعلمون}.
وقال الزمخشري: وقرىء {الحق} بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَمِ اتخذوا ءَالِهَةً} حكايةٌ لجناية أخرى من جناياتهم بطريق الإضرابِ والانتقال من فن إلى فن آخر من التوبيخ إثرَ تحقيق الحقِّ ببيان أنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة وأنهم قاطبةً تحت ملكوته وقهره وأن عبادَه مذعنون لطاعته ومثابرون على عبادته منزِّهون له عن كل ما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها الأندادُ، ومعنى الهمزة في أم المنقطعة إنكارُ الوقوعِ لا إنكار الواقع وقوله تعالى: {مّنَ الأرض} متعلقٌ باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة وأيًا ما كان فالمرادُ هو التحقيرُ لا التخصيصُ، وقوله تعالى: {هُمْ يُنشِرُونَ} أي يَبعثون الموتى، صفةٌ لآلهةً وهو الذي يدور عليه الإنكارُ والتجهيلُ والتشنيع لا نفسُ الاتخاذ فإنه واقعٌ لا محالة أي بل أتخذوا آلهةً من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم يُنشِرون الموتى، كلا، فإن ما اتخذوها آلهةً بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحًا لَكِنهم حيث ادَّعَوا لها الإلهية فكأنهم ادّعَوا لها الإنشارَ ضرورةَ أنه من الخصائص الإلهية حتمًا، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينةِ حالهم للإنشار الموجبةِ لمزيد الإنكار كما في قوله تعالى: {أَفِى الله شَكٌّ} وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا} فإن تقديمَ الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينةِ أمرِه تعالى لأن يُشَك فيه ويُستهزأَ به، ويجوز أن يُجعلَ ذلك من مستتبعات ادّعائِهم الباطلِ لأن الألوهيةَ مقتضيهٌ للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادَّعَوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادَّعوا لها الاستقلالَ بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدّعين لأصل الإنشار.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله} إبطالٌ لتعدد الإله بإقامة البرهان على انتفائه بل على استحالته، وإيرادُ الجمع لوروده إثرَ إنكار اتخاذِ الآلهة لا لأن للجمعية مدخلًا في الاستدلال وكذا فرضُ كونِهما فيهما وإلا بمعنى غير على أنها صفةٌ لآلهة، ولا مساغَ للاستثناء لاستحالة شمولِ ما قبلها وما بعدها وإفضائِه إلى فساد المعنى لدلالته حينئذ على أن الفسادَ لكونها فيهما بدونه تعالى ولا للرفع على البدل لأنه متفرّع على الاستثناء ومشروطٌ بأن يكون في كلامٍ غيرِ موجب، أي لو كان في السموات والأرض آلهةٌ غيرُ الله كما هو اعتقادُهم الباطل {لَفَسَدَتَا} أي لبطلتا بما فيهما جميعًا وحيث انتفى التالي عُلم انتفاءُ المقدّم قطعًا ببيان الملازمة أن الإلهية مستلزِمةٌ للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرًا وتبديلًا وإيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتة، فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها وهو محالٌ لاستحالة وقوعِ المعلولِ المعيّن بعلل متعددة، وإما بتأثير واحدٍ منها فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعًا، واعلم أن جعلَ التالي فسادَهما بعد وجودِهما لِما أنه اعتُبر في المقدم تعددُ الآلهةِ فيهما وإلا فالبرهانُ يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق، فإنه لو تعدد الإله فإنْ توافقَ الكلِّ في المراد تطاردت عليه القُدَرُ وإن تخالفت تعاوقت فلا يوجد موجودٌ أصلًا وحيث انتفى التالي تعيّن انتفاءُ المقدّم والفاء في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي فسبحوه سبحانه اللائقَ به ونزّهوه عما لا يليق به من الأمور التي من جملتها أن يكون له شريكٌ في الألوهية، وإيرادُ الجلالة في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكم فإن الألوهيةَ مناطٌ لجميع صفاتِ كماله التي من جملتها تنزّهُه تعالى عما لا يليق به ولتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة وقوله تعالى: {رَبُّ العرش} صفةٌ للاسم الجليل مؤكدةٌ لتنزّهه عز وجل {عَمَا يَصِفُونَ} متعلق بالتسبيح أي فسبحوه عما يصفونه من أن يكون من دونه آلهةٌ.
{لاَ يُسْأَلُ عَمَا يَفْعَلُ} استئنافٌ ببيان أنه تعالى لقوة عظمته وعزةِ سلطانه القاهرِ بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسألَه عما يفعل من أفعال إثرَ بيانِ أن ليس له شريكٌ في الإلهية {وَهُمْ} أي العباد {يُسْئَلُونَ} عما يفعلون نقيرًا وقطميرًا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبَدون ففيه وعيدٌ للكفرة.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} إضرابٌ وانتقالٌ من إظهار بُطلانِ كون ما اتخذوه آلهةً آلهةً حقيقةً بإظهار خلوِّها عن خصائص الألاهية التي من جملتها الإنشارُ وإقامةُ البرهان القاطعِ على استحالة تعدد الإله على الإطلاق وتفرّدِه سبحانه بالألوهية إلى إظهار بطلانِ اتخاذِهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاءَ لله عز سلطانُه، وتبكيتُهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيقُ أن جميع الكتب السماويةِ ناطقةٌ بحقية التوحيد وبطلانِ الإشراك. والهمزةُ لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحِه ومن متعلقةٌ باتخذوا، والمعنى بل أُتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهةً مع ظهور خلوهم عن خواصّ الألوهية بالكلية {قُلْ} لهم بطريق التبكيتِ وإلقامِ الحجر {هَاتُواْ برهانكم} على ما تدّعونه من جهة العقل والنقلِ فإنه لا صحةَ لقولٍ لا دليلَ عليه في الأمور الدينية لاسيما في مثل هذا الشأنِ الخطير، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانًا ضربٌ من التهكم بهم وقوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى} إنارةٌ لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتبُ الإلهية قاطبةً وشهِدت به ألسنةُ الرسلِ المتقدمة كافةً وزيادةُ تهييجٍ لهم على إقامة البرهان لإظهار كمالِ عجزِهم، أي هذا الوحيُ الواردُ في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطعِ العقليّ ذكرُ أمتي أي عظتُهم وذكرُ الأمم السالفة قد أقمتُه فأقيموا أنتم أيضًا برهانَكم، وقيل: المعنى هذا كتابٌ أُنزل على أمتي وهذا كتابٌ أنزل على أمم الأنبياءِ عليهم السلام من الكتب الثلاثةِ والصحفِ فراجعوها وانظُروا هل في واحد منها غيرُ الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ففيه تبكيتٌ لهم يتضمن إثباتَ نقيضِ مُدّعاهم وقرىء بالتنوين والإعمال كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} وبه وبمن الجارة على أن مع اسمٌ هو ظرف كقبلٍ وبعْدٍ وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} إضرابٌ من جهته تعالى غيرُ داخل في الكلام الملقن وانتقالٌ من الأمر بتبكيتهم بمطالبة البرهانِ إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المُحاجّة بإظهار حقيقة الحقِّ وبطلانِ الباطل، فإن أكثرهم لا يفهمون الحقَّ ولا يميزون بينه وبين الباطل {فَهُمُ} لأجل ذلك {مُّعْرِضُونَ} أي مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباعِ الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كُرّرت عليهم البينات والحجج، أو معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية، وقرىء الحقُّ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوف وسِّط بين السبب والمسببِ تأكيدًا للسببية. اهـ.